من بنى الكعبة المشرفة؟

(هل بُنِيَت الكعبة قبل إبراهيم عليه الصلاة والسلام؟) إلى أن الرأي الأغلب هو أن الكعبة كانت موجودة قبل إبراهيم، وأن إبراهيم أعاد البناء، ولم تختفِ الكعبة بعد ذلك، حيث كانت تُبْنَى بمجرَّد هدمها، ولذا اعتُبر إبراهيم هو الباني لهذا البناء الموجود.

تعليقًا على مسألة الوقت الذي بين بناء المسجد الحرام والمسجد الأقصى:

قال ابن حجر: وَقَدْ وَجَدْتُ مَا يَشْهَدُ لَهُ وَيُؤَيِّدُ قَوْلَ مَنْ قَالَ إِنَّ آدَمَ هُوَ الَّذِي أسس كلا من المسجدين فَذكر بن هِشَامٍ فِي كِتَابِ التِّيجَانِ أَنَّ آدَمَ لَمَّا بَنَى الْكَعْبَةَ أَمَرَهُ اللَّهُ بِالسَّيْرِ إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ وَأَنْ يَبْنِيَهُ فَبَنَاهُ وَنَسَكَ فِيهِ، وَبِنَاءُ آدَمَ لِلْبَيْتِ مَشْهُورٌ[1].

وفي تفسير عبد الرزاق وابن أبي حاتم بسند صحيح إلى قتادة قال: فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ} [الحج: 26]، قَالَ: “وَضَعَ اللَّهُ الْبَيْتَ مَعَ آدَمَ..”[2].

وروى أيضًا عبد الرزاق بسند صحيح عَنْ عَطَاءٍ قَالَ: “قَالَ آدَمُ: أَيْ رَبِّ، مَا لِي لَا أَسْمَعُ أَصْوَاتَ الْمَلَائِكَةِ؟ قَالَ: خَطِيئَتُكَ، وَلَكِنِ اهْبِطْ إِلَى الْأَرْضِ، فَابْنِ لِي بَيْتًا ثُمَّ احْفُفْ كَمَا رَأَيْتَ الْمَلَائِكَةَ تَحُفُّ بِبَيْتِي الَّذِي فِي السَّمَاءِ..”[3].

بعض الروايات الصحيحة التي تصرِّح بوجود البيت قبل آدم عليه السلام:

روى الحاكم عَنْ عبد الله بن عمرو رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: كَانَ الْبَيْتُ قَبْلَ الْأَرْضِ بِأَلْفَيْ سَنَةٍ، «فَإِذَا الْأَرْضُ مُدَّتْ» قَالَ: «مِنْ تَحْتِهِ مَدًّا»[4].

بعض المحدِّثين يقولون إن هذا تسرَّب من عبد الله بن عمرو بن العاص إلى كتبنا عن طريق الإسرائيليات، وعليهم نردُّ ونقول:

أولًا: عبد الله بن عمرو فقيه كبير، وممدوح من رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن الذين ائتمنهم رسول الله صلى الله عليه وسلم على كتابة السُّنَّة، فلن ينقل من الإسرائيليات، لو كان فعل هذا، إلا ما ثبت عنده أنه لا يتعارض مع عقيدتنا الصحيحة.

ثانيًا: نقل عبد الله بن عمرو نفسه حديثًا متعلِّقًا بهذه المسألة، فقال: قال النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: «بَلِّغُوا عَنِّي وَلَوْ آيَةً، وَحَدِّثُوا عَنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلاَ حَرَجَ، وَمَنْ كَذَبَ عَلَيَّ مُتَعَمِّدًا، فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ»[5].

ثالثًا: لا بأس ألا نصدِّق الإسرائيليات، ولكن لا نكذِّبها أيضًا إذا لم تكن متعارضة مع شريعتنا، وقد روى أحمد عن أَبِي نَمْلَةَ الْأَنْصَارِيَّ، أن رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: “إِذَا حَدَّثَكُمْ أَهْلُ الْكِتَابِ فَلَا تُصَدِّقُوهُمْ وَلَا تُكَذِّبُوهُمْ، وَقُولُوا: آمَنَّا بِاللَّهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ، فَإِنْ كَانَ حَقًّا لَمْ تُكَذِّبُوهُمْ، وَإِنْ كَانَ بَاطِلًا لَمْ تُصَدِّقُوهُمْ”[6].

رابعًا: لا أعتقد أن هذا النصَّ في الإسرائيليات لأن التعظيم فيه للبيت الحرام، وهو غير معظَّم عند اليهود والنصارى، إنما يعظِّمون بيت المقدس.

خامسًا: يؤيِّد هذه الرواية ما رواه الطبراني في الكبير، وقال الهيثمي رجاله رجال الصحيح، عن عبد الله بن عَمرو، قال: “وُضِعَ الحَرَمُ قبلَ الأرض بألفَيْ عام، ودُحِيَت الأرضُ من تحته”[7].

سادسًا: روى الشافعي في مسنده بسند صحيح إلى العلامة محمد بن كعب القرظي، وهو من التابعين، وقال عنه الذهبي من أوعية العلم: قال الشافعي: أَخْبَرَنَا سُفْيَانُ، عَنِ ابْنِ أَبِي لَبِيدٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ الْقُرَظِيِّ أَوْ غَيْرِهِ، قَالَ: “حَجَّ آدَمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَلَقِيَتْهُ الْمَلَائِكَةُ فَقَالُوا: بَرَّ نُسُكُكَ آدَمُ، لَقَدْ حَجَجْنَا قَبْلَكَ بِأَلْفَيْ عَامٍ”[8].[9].

د. راغب السرجاني

[1] فتح الباري لابن حجر، 6/ 409.
[2] تفسير عبد الرزاق، 2/ 401.
[3] مصنف عبد الرزاق الصنعاني، 5/ 92.
[4] الحاكم في المستدرك (3911)، وقال: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه، تعليق الذهبي في التلخيص: صحيح.
[5] البخاري: بكتاب الأنبياء، باب ما ذكر عن بني إسرائيل (3274).
[6] أحمد (17264)، شعيب الأرناءوط: إسناده حسن.
[7] الطبراني في المعجم الكبير (14156).
[8] الشافعي: مسند الشافعي، شركة غراس للنشر والتوزيع، الكويت، الطبعة الأولى، 1425هـ= 2004م، 2/ 170.
[9] لمشاهدة الحلقة على اليوتيوب اضغط هنا: من بنى الكعبة المشرفة؟